طوائف
الناس حول إثبات حكمة الله
إن من
العجائب أن يظهر في أهل القبلة بعض الطوائف التي تنفي صفة الحكمة لله تعالى حيث لا
حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله تعالى وأحكامه وأقضيته،
وإنما
هي المشيئة المجردة
⤴وهم الذين يعرفون بنفاة الحكمة والتعليل من الجبرية
والجهمية ومن تبعهم،
ويرون
أن كل «لام» في القرآن توهم التعليل إنما هي لام العاقبة،
وكل
«باء» تشعر بالتسبب إنما هي باء المصاحبة.
وقد
أطال النفس في الرد عليهم الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه النفيس (مفتاح
دار السعادة ومنشور دار الولاية)
وأذكر
هنا ما أورده من أقسام الناس في موقفهم من قدرة الله وحكمته.
قال
رحمه الله تعالى:
«إن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما
الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما.
واسمه
سبحانه (الحكيم) يتضمن حكمته في خلقه، وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم
في كل ما خلقه وأمر به.
↩والناس في هذا المقام أربع طوائف.
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
《الطائفة الأولى》
الجاحدة
لقدرته وحكمته
فلا
يثبتون له سبحانه قدرة ولا حكمة،...
⤴وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها عناية إلهية،
◀وهم من أشد الناس تناقضًا، إذا لا يعقل حكيم لا
قدرة له ولا اختيار،
وإنما
يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع عناية إلهية من غير أن يرجع منها إلى الرب
سبحانه إرادة ولا حكمة،
♦وهؤلاء كما أنهم مكذبون لجميع الرسل والكتب
♦فهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب سبحانه إلى أعظم النقص،
وجعلوا
كل قادر مريد مختار أكمل منه وإن كان من كان،
بل سَلْبُهم
القدرة والاختيار والفعل عن رب العالمين شر من شرك عباد الأصنام به بكثير،
وشر
من قول النصارى إنه - تعالى عن قولهم - ثالث ثلاثة وإن له صاحبة وولدًا،
فإن
هؤلاء أثبتوا له قدرة وإرادة، واختيارًا وحكمة،
ووصفوه
مع ذلك بما لا يليق به.
وأما
أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية، وأثبتوا له أسماء لا حقائق لها ولا معنى.
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
《الطائفة الثانية》
أقرت
بقدرته وعموم مشيئته للكائنات،
وجحدت
حكمته، وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه التي يفعل لأجلها ويأمر
لأجلها،
فحافظت
على القدرة وجحدت الحكمة،
⤴وهؤلاء هم النفاة للتعليل، والأسباب، والقوى، والطبائع
في المخلوقات،
فعندهم
لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء،
وليس
في القرآن عندهم «لام» تعليل ولا «باء» تسبب،
وكل
لام توهم التعليل فهي عندهم لام العاقبة،
وكل
باء تشعر بالتسبب فهي عندهم باء المصحابة.
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
《الطائفة الثالثة》
أقرت
بحكمته وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه،
وجحدت
كمال قدرته،
فنفت
قدرته على شطر العالم وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة، والجن، والإنس وطاعاتهم،
بل عندهم
هذه كلها لا تدخل تحت مقدوره سبحانه،
ولا
يوصف بالقدرة عليها ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه،
وليس
في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصليًا، والموفق موفقًا، بل هو الذي
جعل نفسه كذلك.
وعندهم
أن أفعال العباد من الملائكة، والجن، والإنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله
عن قولهم
ونفي
قدرة الرب سبحانه على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها
مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء، ونفي التزامها تناقض بين،
فصاروا
بذلك بين التناقض - وهو أحسن حالهم -
وبين
التزام تلك العظائم التي تخرج عن الإيمان، كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك.
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
《الطائفة الرابعة》
فهدى
الله «الطائفة الرابعة»
لما
اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فآمنوا بالكتاب كله،
وأقروا
بالحق جميعه،
ووافقوا
كل واحدة من الطائفتين على ما معها من الحق،
وخالفوهم
فيما قالوه من الباطل،
فآمنوا
بخلق الله وأمره بقدره وشرعه،
وأنه
سبحانه المحمود على خلقه وأمره،
وأنه
له الحكمة البالغة والنعمة السابغة،
وأنه
على كل شيء قدير:
فلا
يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أعيانها وأفعالها وصفاتها،
كما
لايخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلقت به قدرته ومشيئته.
وآمنوا
مع ذلك بأن له الحجة على خلقه، وأنه لا حجة لأحد عليه، بل لله الحجة البالغة،
وأنه
لو عذب أهل سماواته، وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم منه عدلاً
وحكمة لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة كما يقوله الجبرية،
ولا
يجعلون القدر حجة لأنفسهـم ولا لغيرهـم، بل يؤمـنون به ولا يحتجـون به،
ويعلمـون
أن الله سبحانه أنعم عليهم بالطاعات، وأنها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأن المعاصي
من نفوسهم الظالمة الجاهلة،
وأنهم
هم جناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضـاء والقدر مع علمهم بشـمول قضـائه
وقدره لما في العـالم من خـير، وشر، وطاعة، وعصيان، وكفـر، وإيمان
وأن
مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به، وأنه لو شاء ألا يعصى لما عصي، وأنه
تعالى أعز وأجل من أن يعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون،
وأنه
ما شاء الله كان وكل كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته،
فله
الـخلق والأمر وله الملك والحمد، وله ا لقـدرة التامـة والحكمة الشاملة البالغة.
⤴ فهذه الطائفة هم أهل البصر التام.
والأولى
لهم العـمى المطلق.
والثانية
والثالثة كل طائفة منهما له عين عـمياء،
◀ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين
الصحيحة فأعماها، ولا يسـتكثر بتكرار هـذه الكلمات من يعلم شدة الـحاجة إليها، وضرورة
النفـوس إليها، فلو تكـررت ما تكررت، فالحاجة إليها في محل الضرورة.
والله
المستعان»
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
أنواع حكم الله عز و جل
ذكرنا
من قبل أن من معاني اسم [الحكيم]
الحاكم
الذي له الحكم المطلق الكامل من جميع الوجوه
فما
هي أنواع حكم الله عزوجل
عن هذا
المعنى (الحُكم) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"والحُكم نوعان:
حكم
كوني قدري، وحكم أمري ديني"
ما الفرق
بين الأحكام القدرية والأحكام الشرعية
وما
واجب العبد تجاهها
الفرق
بين الحكم الشرعي والحكم القدري
يقول
ابن عثيمين - رحمه الله- في تفسير قوله تعالى :-
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 32)
ولـ
{الحكيم} معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه؛
وحكمه
تعالى نوعان: شرعي، وقدري؛
1⃣فأما الشرعي فوحيه الذي جاءت به رسله؛
ومنه
قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]،
وقوله
تعالى { ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
[الممتحنة: 10] ؛
2⃣وأما حكمه القدري فهو ما قضى به قدراً على عباده
من شدة، ورخاء، وحزن، وسرور، وغير ذلك؛
ومنه
قوله تعالى عن أحد إخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي
أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يوسف: 80)
والفرق
بين الحكم الشرعي، والكوني:
أن الشرعي
لا يلزم وقوعه ممن حُكِم عليه به؛
↩ولهذا يكون العصاة من بني آدم، وغيرهم المخالفون
لحكم الله الشرعي؛
وأما
الحكم القدري فلا معارض له، ولا يخرج أحد عنه؛ بل هو نافذ في عباده على كل حال..
تفسير
ابن عثيمين
"شرح اسم الله الحكيم للشيخ عبدالرزاق البدر"
واجب
العبد تجاه أحكام الله عزوجل
1- الأول:حكم شرعي ديني
فهذا
حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم،
وترك
المنازعة، بل الانقياد المحض،
وهذا
تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد، ولا سياسة، ولا قياس ولا تقليد. ولا
يرى إلى خلافه سبيلاً البتة،
وإنما
هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول،
↩فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا
بقي
هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذًا وعملاً،
فلا
تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه،
كما
لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره،
⤴وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض
الحق وشهوة تعارض الأمر،
فلا
استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات،
ولا
خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات،
بل اندرج
خلاقه تحت الأمر، واضمحل خوضه في معرفته بالحق، فاطمأن إلى الله معرفة به،
ومحبة
له وعلمًا بأمره وإرادة لمرضاته.
⤴فهذا حق الحكم الديني.
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
تابع
واحب العبد تجاه أحكام الله
2- الحُكم الثاني الحكم الكوني القدري
الذي
للعبد فيه كسب واختيار وإرادة،
والذي
إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه،
↩فهذا حقه
أن ينازع
ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم البتة،
بل ينازع
بالحكم الكوني أيضًا،
فينازع
حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله،
كما
قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلي:
«الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا
انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعًا للقدر لا واقفًا
مع القدر» أهـ.
فإن
ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه،
فتأمل
قول عمر بن الخطاب وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له: أتفر من قدر الله؟
فقال:
نفر من قدر الله إلى قدر الله.
ثم كيف
ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه،
فإنه
إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفعه بقدر
آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره،
وهكذا
إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله،
فما
باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟
بل ينازعه
ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر
الله،
هكذا
إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة
للمرض،
♦فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه،
↩فإذا غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب
التي نصبها الله لذلك،
فيكون
قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم،
وبهذا
أمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل
للقدر أو الشرع شاء أو أبى،
فما
للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه، وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع
أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه؟
وهل
هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه؟
ولو
أن عدوًا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه
الله،
وهو
الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعًا لقدر الله بقدره،
♦فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية،
↩اللَّهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة، والمنازعة،
وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث.
ولله
الأسماء الحسنى - عبد العزيز الجليل
تابع
واجب العبد تجاه أحكام الله
3- الحُكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري
على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته
⤴فهذا حقه
▪أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة،
▫وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل،
▪وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة
وعن سبب يدنيه من النجاة
↩فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة،
♦مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة،
وهي
أن يشهد عزة الحاكم في حكمه،
وعدله
في قضائه،
وحكمته
في جريانه عليه،
وأن
ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه،
وأن
الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة،
فقد
جف القلم بما يلقاه كل عبد،
فمن
رضي، فله الرضى ومن سخط فله السخط،
ويشهد
أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم (الحكيم) - جل جلاله - وصفته الحكمة،
وأن
القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به،
وأن
ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل،
↩فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه
أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره.