شرح اسم "الحي"


من بديع المعاني من اسم الله "الحي"

اسم الحي مشتق في اللغة من الحياة, والحياة نقيض الموت،
وحياة الله تعني:
الباقي حيا بذاته أزلا وأبداً،
 (والأزل)  هو دوام الوجود في الماضي،
 (والأبد) هو دوام الوجود في المستقبل,
وكل حي سوى الحي ليس حياة بذاته؛ إنما هو حي بإمداد الحي،
ولذلك قيل إن اسم "الحي" هو اسم الله الأعظم.

وإن المتدبر في الآيات والأحاديث الواردة عن اسم الله "الحي"، وصفة الحياة له -سبحانه-، يري الكثير من المعاني والدلالات, ومنها:

أولا: إن حياة الله -تعالى- حياة لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال،
وما من أحد إلا وقد سبق حياتَه عدمٌ، إلا الله الأول الحي،
قال ربنا في حق ابن آدم:
(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الإنسان:1]،
قال البغوي: " ومعناه قد أَتَى عَلَى الْإِنْسانِ، وهو آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أربعون سنة وهو من طين ملقى بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طين إلى أن نفخ فِيهِ الرُّوح".

 وهذا الإيضاح جامع في بابه، أن حياة الله حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، حياة كاملة، منزهة من كل عيب أو نقص,
وهذا يدل أعظم دلالة على عظم شأن هذا الاسم وجلالة قدره,
وما يقتضيه من الذلِّ والخضوع لله -عز وجل-: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].
خطبة البيان القوي في فقه اسم الحي - ملتقى الخطباء 


 ❄ثانيا: إن الله الحي -سبحانه- هو الباقي الدائم الذي لا ينتظره موت، ولا يلحقه فناء,
والجن والإنس يموتون، وكل شيء هالك إلا وجهه،
ولهذا لا يستحق أحد أن يؤلَّهَ ويُعبَدَ ويُحبَ إلا الله الحي الباقي، ولا يكون مالكا إلا الباقي وارث الأرض ومن عليها,
فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله،
وإذا كان ما سواه هالكاً فعبادة الهالك الباطل باطلة:
 (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].

 فكل ما سوى الله سيموت وينتهي،
قال -تعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27],
يقول السعدي: "أي: كل من على الأرض، من إنس وجن ودواب وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد، ويبقى الحي الذي لا يموت".

 ولذلك فإن أضل خلق الله هم الذين عبدوا غيره من مخلوقات فانية تموت وتذهب مثلهم،
فما أشقاهم! وما أغباهم!
مثل الذين يعبدون الكواكب، فإنهم يعبدون الآفل؛
لأن هذه الكواكب تغيب وتأفل وتزول، ويعتريها الكسوف والخسوف ونحو ذلك، وتتفتت وتتطاير في الفضاء، ثُمَّ إن مصيرها إِلَى الفناء، وليس لها الحياة المطلقة.

والذين عبدوا اللات والعزى إنما عبدوا أحجاراً صماء ليس فيها حياة،
وهكذا كل ما عُبد من دون الله من ملَك أو نبي أو ولي أو حجر أو شجر أو كوكب،
نجد أنه ما كَانَ له أن يُعبد من دون الله لو أن العابدين له كانت لهم عقول،
فلو أنهم تأملوا في حقيقة هذا الاسم، وقدروا الله حق قدره،
وعرفوا حقيقة اسم الله "الحي" لما عبدوا من دون الله -سبحانه وتعالى- أحداً سواه بإطلاق.

 لذلك قال -تعالى- في محكم آياته: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل:19-20],

واصفا كل المعبودات الباطلة التي تعبد من دونه بوصف واحد كلي جامع لهم وهو الموت،
أما الله فهو الحي الباقي،
الذي لا إله إلا هو، وله الحكم في الدنيا والآخرة، وإليه مرجع الخلائق كلهم,
قال -سبحانه-: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40],

عندها يجازيهم بأعمالهم, يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
خطبة البيان القوي في فقه اسم الحي - ملتقى الخطباء 


حياة الله كاملة سبحانه مقطع رائع لعظم اسم للشيخ نبيل العوضي


ثالثا: إن الحي -سبحانه- هو القيوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، فضلا عن الفناء والموت،
فحياته مرتبطة بقيّوميته، فهو -سبحانه- يدبر أمر الخلائق في العالم العلوي، والكائنات في العالم السفلي، ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض,
يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، وينصر ويخذل,
يخلق في كل لحظة ما لا يحصى من الأحياء من نبات وحيوان وإنسان،
ويتكفل بتدبير معاشهم، ويقدر لهم أقواتهم, ويسوق إليهم أرزاقهم، وتحت أمره بقاؤهم وفناؤهم،
وفي كل لحظة يموت بأمر الله ما لا يحصى من الأحياء.

 وفي حديث أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِأَرْبَعٍ:
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ, يَرْفَعُ الْقِسْطَ [وهو العدل] وَيَخْفِضُهُ, وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ, وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ" رواه مسلم.

 قال النووي:
 "أَمَّا قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم- "لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ" 
فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ -سبحانه وتعالى- لَا يَنَامُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ النَّوْمُ؛

فَإِنَّ النَّوْمَ انْغِمَارٌ وَغَلَبَةٌ عَلَى الْعَقْلِ يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْسَاسُ،
وَاللَّهُ -تعالى- مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ في حقه -جل وعلا-".

 ❄رابعا: إن الحي -سبحانه- هو واهب الحياة للخلق,
فالحياة لا يملكها أحد غير واهبها, ولا يسلبها أحد غير معطيها,
كما أن الموت كالحياة سر لا يعلمه إلا الله، ولا يملك أحد أن يحدثه, فسبحان الذي:
 (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد:2]!.
خطبة البيان القوي في فقه اسم الحي - ملتقى الخطباء


البون الشاسع بين حياة الخالق وحياة المخلوق

 إن الخالق موصوف بالحياة، والمخلوق موصوف بالحياة،
ولكن شتان ما بين الحياتين!

فالحي -سبحانه- حياتُه مُنَزَّهَةٌ عن مشابهة حياة الخلق،
لا يجري عليها الموت أو الفناء،
ولا تَعْتَريها السِّنَة ولا النَّوم,
مُتَضَمِّنٌ للحياة الكاملة التي لم تُسْبَقْ بعدم، ولا يَلْحَقُها زَوَال.

 إن الفرق عظيم بين ما يتصف به المخلوق وبين ما يتصف به الخالق -سبحانه وتعالى-،
فحياة الله -سبحانه وتعالى- هي من لوازم ذاته، فهو الحي بذاته -سبحانه وتعالى-،
وما في الآخرة من الأحياء في الجنة من الملائكة وغيرهم إنما هم أحياء بإحياء الله لهم،
فالله هو الذي وهبهم الحياة،
وليس حياتهم في الجنة من لوازم ذواتهم، ،
كما أنه هو الذي قضى عليهم ألا يموتوا, وإن كانت هذه الحياة هي فعلاً أكمل من الحياة الدنيا،
وهي حياة حقيقية بالنسبة للحياة الدنيا العارضة الزائلة العابرة,
ولو شاء لأهلكهم جميعاً -تَبَارَكَ وَتعالى-،

فما يليق بالخالق -سبحانه وتعالى- له شأن، وما يليق بالمخلوق له شأن آخر.

خطبة البيان القوي في فقه اسم الحي - ملتقى الخطباء 
  
"الحي" سبحانه مانح الحياة للمخلوقين

حياة المخلوق هي حياة ممنوحة من الله الواحد الأحد، وهي تنقسم إلى مرحلتين:
1 – الحياة الدنيا،
2 – الحياة الآخرة.

والحياة الدنيا هي عمر هذا الكون والكائنات التي تعيش داخله، وهذه الحياة الدنيا تشمل السماء والأرض والنجوم والكواكب والجبال والشجر والدواب، وما نبصر وما لا نبصر.

وبدأت الحياة الدنيا بهذا المعنى منذ نشأة الكون
وتستمر إلى نهايته التي تسمى شرعًا القيامة، حيث تتبدل الأرض غير الأرض والسموات..

والحياة الآخرة هي
التي تبدأ من قيام الساعة وخروج الناس من قبورهم للحساب والجزاء،

وتستمر بلا انقطاع في النعيم أو الجحيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، وتلك هي إرادة الله تعالى للفريقين،
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِه فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خٰلِدِيْنَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمٰوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمٰوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ هود: الآيات 105-108.

  مقال الحياة: أنواعها ونواميسها - د.محمد المسير
بيان عظمة "الحي"سبحانه في مراحل حياة الإنسان

حياة الإنسان تمر بمجموعة من الحياة، لكل واحدة منها ناموس خاص، وهي:
حياة الرحم..
ويمر فيها الإنسان بالنطفة والعلقة والمضغة والعظام
والعظام المكسوة باللحم ثم نفخ الروح إلى أن يتكامل نموه في هذا القرار المكين وفي الظلمات الثلاث ..

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلٰلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنٰهُ خَلْقًا اٰخَرَ فَتَبٰرَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ المؤمنون: الآيات 12 – 14.

حياة الأرض
وهي مرحلة الأجل المسمى الذي حدده الله تعالى للإنسان على ظهر هذه الأرض،
وهي مرحلة الابتلاء بالتكليف
قال الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَّمَتَاعٌ إِلىٰ حِينٍ﴾ البقرة: آية 36.
وقال جل شأنه: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ الإنسان: الآيتان 2، 3.

حياة القبر،
والقبر أول منازل الآخرة، وفيه يسأل الإنسان عن ربه ودينه ونبيه، وهو روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار..
فقد روى الشيخان عن «البراء ابن عازب» في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الذِيْنَ اٰمَنُوا بالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِيْ الحيٰوةِ الدُّنْيَا وَفِيْ الاٰخِرَة﴾
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت في عذاب القبر، فيقال له من ربك؟
فيقول: ربي الله ونبي محمد، فذلك قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الذيْنَ اٰمَنُوْا﴾ إبراهيم:آية 27.

حياة البعث..
وهي مرحلة القيامة عقب النفخ في الصور
فيخرج الناس من قبورهم تغشاهم الأهوال من كل جانب، وتنتابهم المخاوف من فوقهم ومن تحت أرجلهم وتسوقهم الملائكة إلى موقف الحساب والعرض.

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ المعارج: الآيتان 43، 44.

حياة الخلود..
وتلك هي آخر أنواع الحياة التي يمر بها الإنسان،
وهي حياة مهيأة بقدرة الله للخلود الأبدي الذي لاينقطع في النعيم أو الجحيم.

فالمؤمنون خالدون أبدًا في جنات النعيم لا يعتريهم موت ولا ينالهم نصب ولا يغيب عنهم شيء مما لذوطاب.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنّٰتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقٰبِلِيْنَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنٰهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ اٰمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقٰهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الدخان: الآيات 51- 57،

والكافرون خالدون أبدًا في نار جهنم تتوارد عليهم ألوان العذاب وتحيط بهم الحسرة بكل أشكالها.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خٰلِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنٰهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظّٰلِمِينَ * وَنَادَوْا يٰمٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ الزخرف: الآيات 74– 77.

وهذا التعدد في أشكال الحياة يؤكد أن ليس للحياة نظام خاص، بل للحياة قوانين ونظم شتى،
وما به الحياة في مرحلة لا يصلح مقياساً للحياة في مرحلة سابقة أو لاحقة.

فالجنين في رحم أمه حي وله من الظروف والملابسات مالا يصلح للإنسان على ظهر هذه الأرض،
كذلك فإن حياة القبر لها من الاختلاف والتباين مالا يخضع لحياة الإنسان المشاهدة فهي نوع حياة لا نحسه نحن ولا ندركه، به يسمع السؤال ويجيب عنه..

ومما يؤكد هذا التباين في نظم الحياة أن حياة الخلود في النعيم بأشكال من الحياة لم تخطر على قلب بشر..

فسبحان الخلاق العليم ﴿الّذِيْ أعْطٰى كُلَّ شَيْءٍ خَلقَه ثُمَّ هَدٰى﴾.

 وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ البقرة: آية 28.

مقال الحياة : أنواعها ونواميسها (بتصرف يسير) - د.محمد المسير

الحياة الدنيا - تمر الأعوام مؤثر للشيخ الشنقيطي

نظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا

الدنيا مزرعة الآخرة
جرت المشيئة الإلهية أن يخلق الله الإنسان في هذه الدنيا؛ ليكون خليفة الله في هذه الأرض،
وعرفه سبيل الرشاد وبين له سبل الضلال من خلال الوحي إلى رسله
﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]،
وبين حقيقة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ممر لا دار مقر،
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».(رواه الترمذي وقال حسن صحيح)

الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذه الحياة، واستخلفه في الأرض لإعمارها، واستثمارها وفق المنهج الذي أنزله على أنبيائه ورسله، وبلغوها أقوامهم؛
وذلك ليجازي كلاً على ما قدم فيها:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].

وجعل سنة التدافع مستمرة في هذه الحياة،
ليميز الخبيث من الطيب،
ولم يجعل لأحد الغلبة المطلقة على أهل الأرض، سواء من الصالحين أو الأشرار بل الأيام دول بين الأمم والشعوب والأفراد
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
[آل عمران: 140-142].

نظرة اعتدال وتوازن
نظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا قوامها الاعتدال والتوازن،
فبالرغم أن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف، وهي دار ممر،
إلا أن الإسلام لم يهملها ولم يأمر بتركها والتجافي عنها،
كما أنه لم يجعلها الغاية التي يعمل الإنسان من أجلها
يقول الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].

وقد راعى الإسلام الطبيعة البشرية في الميل إلى زينة الحياة الدنيا فأباحها لهم، على أن لا تصدهم عن العمل للآخرة، والسعي إلى مرضاة الله عز وجل
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].

الحياة الدنيا زينة وليست قيمة
لما كانت الحياة الدنيا مؤقتة، وحالة عابرة، وعرضاً زائلاً في رحلة الإنسان المتمثلة في الأطوار التي يمر بها الإنسان من:
ولادة ونشأة، ثم موت وحياة برزخية ثم بعث بعد موت، ثم استقرار وخلود في الدارة الآخرة.

فالحياة الدنيا بمباهجها ونضرتها وشهواتها هي زينة؛ لأنها عرض زائل، فإذا تحول الإنسان فيها من متعة إلى أخرى مضت المتعة الأولى، ولم يبق لها أثر..
أما القيمة أو الحقيقة الخالدة فهي حقائق الآخرة،
لذا قال الله سبحانه وتعالى عن الحياة الدنيا:
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].

ولكن هذا العرض الزائل إذا ربط بالقيم الحقيقية،
وجعل وعاء للكنوز والمدخرات الباقية الخالدة،
استمتع بها الإنسان حالاً ومالاً، عاجلاً وآجلاً.
كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 45-46].

نظرة الإسلام إلى الإنسان والكون والحياة - أ. د. مصطفى مسلم -شبكة الألوكة 

الحياة الحقيقية حياة الآخرة
لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً حتى أوجدكم الله من العدم
وأسبغ عليكم النعم ودفع عنكم النقم
ويسر لكم من أسباب البقاء وأسباب الهداية
وبين لكم ما ينفعكم وما يضركم
بين لكم أن للإنسان دارين
دار ممر وزوال
ودار مقر وخلود

أما الدار التي هي دار ممر وزوال فهي دار الدنيا التي كل ما فيها فهو ناقص إلا ما كان مقرباً إلى الله تعالى

أما الدار الآخرة فهي الحياة الحقيقية التي فيها جميع مقومات الحياة من
البقاء والسرور
والسلام والحبور
هي الحياة الحقيقية التي ينطق الإنسان إذا شاهد حقائقها
يقول يا ليتني قدمت لحياتي

فالحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي يحيا الناس فيها فلا يموتون:
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101-103]

الحياة الحقيقية حياة الآخرة -ابن عثيمين -شبكة الألوكة

العاقل يؤثر الحياة الباقية على الحياة الفانية

أيها الناس اتقوا الله تعالى وانظروا نظر العاقل البصير،
قارنوا بين الحياة الدنيا وحياة الآخرة لتعرفوا الفرق بين الدارين

ففي الدار الآخرة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
وهي دار السلام سالمة من كل نقص ومن كل بلاء لا مرض فيها ولا موت ولا بؤس ولا هرم
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) 
وهذا كلام الصادق المصدوق

إن موضع العصا في الجنة خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها
بكل ما فيها من نعيم وترف

إذا كان هذا خيراً من الدنيا كلها فكيف بما أدركت منها من الزمن القليل
وإذا كان موضع السوط خيراً من الدنيا كلها فكيف بمنازل أدنى منزلة فيها مسيرة ألفي عام يرى أقصاها كما يرى أدناها.

أيها الناس: إن من العجب أن يؤثر أقوام الحياة الدنيا على الآخرة
والآخرة خير وأبقى
يؤثرونها على الآخرة فيعملون لها ويدعون عمل الآخرة
يحرصون على تحصيل الدنيا وإن فوتوا ما أوجب الله عليهم
ينغمسون في شهواتهم وسهواتهم وينسون شكر من أنعم بها عليهم
علامة هؤلاء
أنهم يتكاسلون عن الصلوات ويتثاقلون ذكر الله
ويخونون في الأمانات
ويغشون في المعاملات
ويكذبون في المقالات
ولا يوفون بالعهود
ولا يبرون الوالدين ولا يصلون الأقارب.

أيها الناس:
إن من آثر الحياة الآخرة على الدنيا حصل له نعيم الآخرة والدنيا
لأن عمل الآخرة يسير على من يسره الله عليه ولا يفوت من الدنيا شيئاً
فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
والله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}

أما من آثر الحياة الدنيا على الآخرة فإنه قد يؤتى من الدنيا ولكن ليس له في الآخرة من نصيب:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15،16].

اللهم اجعلنا ممن آثروا الآخرة على الدنيا وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

الحياة الحقيقية حياة الآخرة -ابن عثيمين -شبكة الألوكة

حياة القلوب هي الحياة الحقيقية

أيها الأحبة!
الحياة الحقيقية ليست هي الحياة التي يراها الناس في ظاهر تصرفات بني جنسهم
من الذهاب والإياب واليقظة والنوم والحل والترحال والسفر والنزول والوصول،
وإنما الحياة الحقيقية هي حياة القلوب،

قال جل وعلا: 
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122]

إن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب،
إن الحياة الصادقة هي توجه الأفئدة إلى بارئها إلى الذي خلقها وأنشأها من العدم،
إلى الذي قسم أرزاقها وقسم آجالها،
إلى الذي يطعمها ويسقيها ويكفيها ويؤويها،
إن الحياة الحقيقية أن يتوجه الإنسان بقلبه وقالبه،
بظاهره وباطنه، بشكله ومضمونه بجوهره وعرضه،
أن يتوجه بهذا كله إلى الله جل وعلا.

الحياة الحقيقية ليست حياة الجسوم والرسوم،
لقد ذكر الله حال الكافرين وما فتح لهم وما زخرف بين أيديهم وما سخر بينهم،
ومع ذلك قال الله جل وعلا في شأنهم: 
{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً  }[الفرقان:44].

وذكر الله جل وعلا شأن المعرضين وإن كانوا أحياء على وجه الأرض شأن المعرضين عن ذكر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال جل وعلا: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } [الأعراف:176]
تلك حياة الذين لا يستجيبون لله ورسوله، 

ليست الحياة أن يرمق الطرف، أو أن تمشي الخطى، أو أن يخفق القلب، أو أن يضخ الدم، أو أن تتحرك الجوارح، ↔هذا عرض من أعراض الحياة،
لكن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب،
كما مر أحد السلف برجل من الذين ابتلوا بالأمراض والأسقام
فقيل له: يا فلان كيف تجد حالك؟

قال: أحمد الله الذي آتاني لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وبدناً على البلاء صابراً.
هذه حياة القلوب ليست حياة الجوارح التي لا تنقاد ولا تستجيب لأمر الله جل وعلا.

 (حينما يكون للحياة معنى) -سعد البريك - إسلام ويب 
القلب محل نظر الرب

الحمد لله مقلب القلوب، وعلام الغيوب، وقابل التوبة ممن يتوب، شديد العقاب لقساة القلوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان يكثر من قول:
 ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم،
فالقلب هو محل نظر الله من العبد.
وهو الذي إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله،

يفصح عن ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري و مسلم : عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما:
{ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب }

ففي هذا الحديث العظيم إشارة إلى أن
صلاح حركات العبد بجوارحه بحسب صلاح قلبه فإن كان قلبُه سليماً،
ليس فيه إلا توحيدُ الله وخشيته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبتُه؛
سلِمَت حركات الجوارح، ونشأ على اجتناب المحرمات والمحدثات.

وإن كان القلب مريضاً فاسداً، قد استولى عليه اتباع الهوى، وغلبه حب الشهوات؛
 فسدت حركات الجوارح، وانبعثت إلى كل معصية، ونشطت في كل ضلالة،

ولهذا يُقال: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا كان القلب صالحاً؛ كانت الجنود صالحة، وإن كان فاسداً؛ كانت جنوده فاسدة

أيها المسلمون
من عرف قلبه عرف ربَّه،
وكم من جاهل بقلبه ونفسه، والله يحول بين المرء وقلبه.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر" 

إن في القلوب فاقةً وحاجةً لايسدها إلا الإقبال على الله
وفيها وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله
وفيها فرقة وشتات لا يلم شعثها إلا خشية الله
ومعرفة القلب لله من أعظم مطلوبات الدين،ومن أظهر معالم الصالحين.
وهي معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته،
والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والوساوس، والمراقبة الدائمة لله؛ فهو مقلب القلوب والأبصار.

القلب الحي والقلب الميت - صالح العويد - ملتقى الخطباء
أنواع القلوب

القلوب – أيها الأحبة – أربعة:
-قلب تقي نقي  فيه سراج من الإيمان قوي  فذلك قلب المؤمن،
-وقلب أغلف مظلم؛ فذلك قلب الكافر:
 ((وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ)) البقرة 88.
-وقلب مرتكس منكوس؛ فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي:
 ((فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ)) النساء88.
-وقلبٌ تمده مادتان؛
مادة إيمان، ومادة نفاق
فهو لِما غلب عليه منهما.

وقد قال الله في أقوام: ((هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ )) آل عمران 167

ولاينفع عندالله إلا القلب السليم

 قال تعالى : (( يَوْمَ لاَيَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ))الشعراء 88 - 89

فصاحب هذا القلب يغدو ويروح، ويمسي ويصبح  وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه،وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه،
إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، والكون في أفلاكه يسبح بقدرة العليم وتدبيرالحكيم؛

قلب حي تتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها،
أحب الله وأحب فيه، يترقى في درجات الإيمان والإحسان
فيعبد الله على الحضور والمراقبة، يعبد الله كأنه يراه،
فيمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً  وأُنساً وإجلالاً.
ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية، ورجاء وطاعة، وخضوعاً وذلة؛
يعيش حياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة

القلب الحي والقلب الميت - صالح العويد - ملتقى الخطباء

حياة القلوب باستجابة دعوة الرسول
قال تعالى :-
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتجِيبُوا لله وَللرَّسُول إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يحيكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلبه وَأَنه إليه تحشرون}

فتضمنت هَذِه الْآيَة أمورا

أَحدهَا أَن الْحَيَاة النافعة إِنَّمَا تحصل بالاستجابة لله وَرَسُوله
فَمن لم تحصل لَهُ هَذِه الاستجابة فَلَا حَيَاة لَهُ
وَإِن كَانَت لَهُ حَيَاة بهيمية مُشْتَركَة بَينه وَبَين أرذل الْحَيَوَانَات

فالحياة الْحَقِيقِيَّة الطّيبَة هِيَ حَيَاة من اسْتَجَابَ لله وَالرَّسُول ظَاهرا وَبَاطنا
فَهَؤُلَاءِ هم الْأَحْيَاء وَإِن مَاتُوا وَغَيرهم أموات وَإِن كَانُوا أَحيَاء الْأَبدَان
وَلِهَذَا كَانَ أكمل النَّاس حَيَاة أكملهم استجابة لدَعْوَة الرَّسُول
فَإِن كَانَ مَا دَعَا إِلَيْهِ فَفِيهِ الْحَيَاة فَمن فَاتَهُ جُزْء مِنْهُ فَاتَهُ جُزْء من الْحَيَاة
وَفِيه من الْحَيَاة بِحَسب مَا اسْتَجَابَ للرسول.

َالْآيَة تتَنَاوَل أن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْقُرْآن وَالْجهَاد يحي الْقُلُوب الْحَيَاة الطّيبَة

وَكَمَال الْحَيَاة فِي الْجنَّة وَالرَّسُول دَاع إِلَى الْإِيمَان وَإِلَى الْجنَّة
فَهُوَ دَاع إِلَى الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

وَالْإِنْسَان مُضْطَر إِلَى نَوْعَيْنِ من الْحَيَاة
حَيَاة بدنه الَّتِي بهَا يدْرك النافع والضار ويؤثر مَا يَنْفَعهُ على مَا يضرّه وَمَتى نقصت فِيهِ هَذِه الْحَيَاة ناله من الْأَلَم والضعف بِحَسب ذَلِك
وحياة قلبه وروحه الَّتِي بهَا يُمَيّز بَين الْحق وَالْبَاطِل والغي والرشاد والهوى والضلال فيختار الْحق على ضِدّه

كَمَا أَن الْإِنْسَان لَا حَيَاة لَهُ حَتَّى ينْفخ فِيهِ الْملك الَّذِي هُوَ رَسُول الله من روحه فَيصير حَيا بذلك النفخ وان كَانَ قبل ذَلِك من جملَة الْأَمْوَات
فَكَذَلِك لَا حَيَاة لروحه وَقَلبه حَتَّى ينْفخ فِيهِ الرَّسُول من الرّوح الَّذِي ألْقى إِلَيْهِ
قَالَ تَعَالَى:-
{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ من عباده}
وَقَالَ {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى من يَشَاء من عباده}
فَأخْبر أَن وحيه روح وَنور فالحياة والاستنارة مَوْقُوفَة على نفخ الرَّسُول
الملكي
فَمن أَصَابَهُ نفخ الرَّسُول الملكي وَنفخ الرَّسُول البشري حصلت لَهُ الحياتان
وَمن حصل لَهُ نفخ الْملك دون نفخ الرَّسُول حصلت لَهُ إِحْدَى الحياتين وفاتته الْأُخْرَى الْأُخْرَى.

مختصر من كتاب الفوائد - ابن القيم 

الاستجابة لله والرسول سبب النور في الدنيا والآخرة

قَالَ تَعَالَى
{أَو من كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا}

وَقَوله {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يتَضَمَّن أمورا :

-أَحدهَا أَنه يمشي فِي النَّاس بِالنورِ وهم فِي الظلمَة
فَمثله وَمثلهمْ كَمثل قوم أظلم عَلَيْهِم اللَّيْل فضلوا وَلم يهتدوا للطريق وَآخر مَعَه نور يمشي بِهِ فِي الطَّرِيق ويراها وَيرى مَا يحذرهُ فِيهَا

-وَثَانِيها أَنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون مِنْهُ لحاجتهم إِلَى النُّور

-وَثَالِثهَا أَنه يمشي بنوره يَوْم الْقِيَامَة على الصِّرَاط إِذا بَقِي أهل الشّرك والنفاق فِي ظلمات شركهم ونفاقهم

وَقَوله
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحؤل بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }
وَفِي الْآيَة قَول أَن الْمَعْنى أَنه سُبْحَانَهُ قريب من قلبه لَا تخفى عَلَيْهِ خافية فَهُوَ بَينه وَبَين قلبه
ذكره الواحدي عَن قَتَادَة

وَكَانَ هَذَا أنسب بالسياق
لِأَن الاستجابة أَصْلهَا بِالْقَلْبِ فَلَا تَنْفَع الاستجابة بِالْبدنِ دون الْقلب

فَإِن الله سُبْحَانَهُ بَين العَبْد وَبَين قلبه فَيعلم هَل اسْتَجَابَ لَهُ قلبه وَهل أضمر ذَلِك أَو أضمر خِلَافه

وعَلى القَوْل الأول فَوجه الْمُنَاسبَة  أَنكُمْ إِن تثاقلتم عَن الاستجابة وأبطأتم عَنْهَا فَلَا تأمنوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنكُم وَبَين قُلُوبكُمْ فَلَا يمكنكم بعد ذَلِك من الاستجابة عُقُوبَة لكم على تَركهَا بعد وضوح الْحق واستبانة
فَيكون كَقَوْلِه {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
فَفِي الْآيَة تحذير عَن ترك الاستجابة بِالْقَلْبِ وإن اسْتَجَابَ بالجوارح  وَالله أعلم

مختصر من كتاب الفوائد - ابن القيم 

ميمية العلامة حمد بن عتيق في أسباب حياة القلوب


حياة القلب بالعلم والإيمان
قال تعالى:
 {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ} الرعد 17
فهذا هو المثل المائي شبه الوحي الذي أنزله بحياة القلوب
بالماء الذي أنزله من السماء،

وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل،

فقلب كبير يسع علماً عظيماً كواد كبير يسع ماء كثيراً،
وقلب صغير كواد صغير يسع علماً قليلاً،
فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها.

ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل فيحتمله السيل فيطفوا على وجه الماء زبداً عالياً، يمر عليه متراكباً،
ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض،
فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى إلا الماء الذي تحت الغثاء
يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والشجر والدواب، والغثاء يذهب جفاء يجفي ويطرح على شفير الوادي.

فكذلك العلم والإيمان الذي أنزله في القلوب فاحتملته
فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة يطفو في أعلاها،

واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلب
فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئاً فشيئاً حتى يزول كله،
ويبقى العلم النافع والإيمان الخالص في جذر القلب يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون.

وفي الصحيح من الحديث أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:-
" مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ به من الهُدَى والعِلْمِ، كمَثَلِ الغيثِ الكثيرِ أصاب أرضًا،

فكان منها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأَنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكثيرَ،

وكانت منها أجادِبُ، أَمْسَكَتِ الماءَ، فنفع اللهُ بها الناسَ، فشَرِبُوا وسَقَوْا وزرعوا،

وأصابت منها طائفةً أخرى، إنما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً،

فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللهِ، ونفعه ما بعثني اللهُ به فعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ من لم يَرْفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقْبَلْ هُدَي اللهِ الذي أُرْسِلْتُ به " صحيح البخاري

الوابل الصيب - ابن القيم 
حياة القلب بإماتة شهوات النفس

إنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، 
وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ،
كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. رَحِمَهُ اللَّهُ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... 
        وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... 
         وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهُا

وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ،
فَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ،
وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، وَالْغَفْلَةِ الْجَاثِمَةِ عَلَى الْقَلْبِ،
وَالتَّعَلُّقِ بِالرَّذَائِلِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ قَرِيبٍ يُضْعِفُ هَذِهِ الْحَيَاةَ،
وَلَا يَزَالُ الضَّعْفُ يَتَوَالَى عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ،

وَعَلَامَةُ مَوْتِهِ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا،

وَالرَّجُلُ: هُوَ الَّذِي يَخَافُ مَوْتَ قَلْبِهِ، لَا مَوْتَ بَدَنِهِ،

إِذْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ يَخَافُونَ مَوْتَ أَبْدَانِهِمْ،
وَلَا يُبَالُونَ بِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَّا الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ،↔ وَذَلِكَ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ،

فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ شَبِيهَةٌ بِالظِّلِّ الزَّائِلِ،
وَالنَّبَاتِ السَّرِيعِ الْجَفَافِ، وَالْمَنَامِ الَّذِي يُخَيَّلُ كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ خَيَالًا،

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْتَ مَوْتَانِ:
مَوْتٌ إِرَادِيٌّ،
وَمَوْتٌ طَبِيعِيٌّ،

فَمَنْ أَمَاتَ نَفْسَهُ مَوْتًا إِرَادِيًّا كَانَ مَوْتُهُ الطَّبِيعِيُّ حَيَاةً لَهُ،
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَوْتَ الْإِرَادِيَّ:

هُوَ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ،
وَإِخْمَادُ نِيرَانِهَا الْمُحْرِقَةِ،
وَتَسْكِينُ هَوَائِجِهَا الْمُتْلِفَةِ،

فَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ لِلتَّفَكُّرِ فِيمَا فِيهِ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ.

وَيَرَى حِينَئِذٍ أَنَّ إِيثَارَ الظِّلِّ الزَّائِلِ عَنْ قَرِيبٍ عَلَى الْعَيْشِ اللَّذِيذِ الدَّائِمِ أَخْسَرُ الْخُسْرَانِ،

فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الشَّهَوَاتُ وَافِدَةً، وَاللَّذَّاتُ مُؤْثَرَةً، وَالْعَوَائِدُ غَالِبَةً، وَالطَّبِيعَةُ حَاكِمَةً،

فَالْقَلْبُ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَسِيرًا ذَلِيلًا،
أَوْ مَهْزُومًا مُخْرَجًا عَنْ وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِيهِ
أَوْ قَتِيلًا مَيِّتًا، وَمَا لِجُرْحٍ بِهِ إِيلَامٌ،
وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي حَرْبٍ، يُدَالُ لَهُ فِيهَا مَرَّةً، وَيُدَالُ عَلَيْهِ مَرَّةً،

فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ مَوْتَهُ الطَّبِيعِيَّ، 
كَانَتْ بَعْدَهُ حَيَاةُ رُوحِهِ بِتِلْكَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَحْوَالِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ، 
فَتَكُونُ حَيَاتُهُ هَاهُنَا عَلَى حَسَبِ مَوْتِهِ الْإِرَادِيِّ فِي هَذِهِ الدَّارِ.

وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا أَلِبَّاءُ النَّاسِ وَعُقَلَاؤُهُمْ،
وَلَا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ إِلَّا أَهْلُ الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ، وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْأَبِيَّةِ.

مدارج السالكين -ابن القيم
علامات القلب الحي

الإنابة السريعة لله تعالى:

{هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }(33) ق

سلامته من الحقد والغل والحسد:
هو القلب المخموم
"عن عبد الله بن عمرو، قال: قِيلَ لرسولِ الله: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ".
قالوا: صدوقُ اللسان، نعرفُه. فما مخمومُ القلبِ؟
قال: " هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ. لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ".
حديث صحيح رواه ابن ماجه

 ولهذا كان من دعاء النبي:
 "  وأسألك قلباً سليماً ، وأسألك لِساناً صادقاً ،" حديث حسن رواه أحمد

 مطمئن لأمر الله وقدره:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}  (28) الرعد
وقال سبحانه :
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }(11) التغابن

يهديه للايمان بقضاء الله وقدره والرضا به
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ} الفتح" 4" 

سلسلة " لنحيي قلوبنا" - يحي سليمان العقيلي - صيد الفوائد 
من علامات صحة القلب

أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ، ويحل فيها ، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها ،
جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ، ويعود إلى وطنه ؛
كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وعُدَّ نفسك من أهل القبور ).

وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها ،
وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها ، حتى يصير من أهلها.

ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ،
ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه ، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به ،
فبالله يطمئن ، وإليه يسكن ، وإليه يأوي ، وبه يفرح ، وعليه يتوكل ، وبه يثق ، وإياه يرجو ، وله يخاف،
فذكره قوته ، وغذاؤه ،
ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره،
والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه ، والرجوع إليه دواؤه،
فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق ، وانسدت تلك الفاقة؛
 فالقلب دائماً يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده ،
فحينئذ يباشر روح الحياة ، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلِقَ الخلقُ ، ولأجله خلقت الجنة والنار ، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.

ومن علامات صحة القلب :
أن لا يفتر عن ذكر ربه ،
ولا يسأم من خدمته ،
ولا يأنس بغيره ، إلا بمن يدله عليه ، ويذكره به ، ويذاكره بهذا الأمر.

ومن علامات صحته :
أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.

ومن علامات صحته :
أنه يشتاق إلى الخدمة ، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب.

ومن علامات صحته :
أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ، واشتد عليه خروجه منها ، ووجد فيها راحته ونعيمه ، وقرت عينه وسرور قلبه.

ومن علامات صحته :
أن يكون همه واحداً ، وأن يكون في الله.

ومن علامات صحته :
أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله.

ومنها : أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل ؛
فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منَّة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله.

فهذه مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم.

إغاثة اللهفان - ابن القيم 
حقيقة القلب السليم 

القلب السليم
هو الذي همه كله في الله، وحبه كله له ، 
وقصده له، وبدنه له، وعمله له ، ونومه له ، ويقظته له ،
وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث.
وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه،
وخلوة هذا القلب بربه آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له 
قرة عينه به ، وطمأنينته وسكونه إليه ،فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره تلا عليها
 ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) [ الفجر : 27، 28 ]
فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه 
فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية ،
فتصير العبودية صفة له وذوقاً لا تكلفاً ، فيأتي بها تودداً وتحبباً وتقرباً ، كما يأتي المحب المقيم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله.

فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقاً ينطق : " لبيك وسعديك ، إني سامع مطيع ممتثل، ولك عليّ المنة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك". 

وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقاً يقول :
" أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين ، وأنت ربي العزيز الرحيم ، لا صبر لي إن لم تصبرني ، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك ، ولا انصراف لي عن بابك ، ولا مذهب لي عنك".

فينطرح بمجمعه بين يديه، يعتمد بكليته عليه ،
فإن أصابه بما يكره قال : رحمة أهديت إليَّ ، وداء نافع من طبيب مشفق ،
وإن صرف عنه ما يحبه قال : شر صُرف عني.

وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِى فى انْصِرَافِهِ
وَمَا زِلْتَ بى مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا

فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:
ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى ...
        إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا
أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به ...
    مِنِّى بِهِإنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا

فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز
والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر.

سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ ...
     وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ

تالله، لقد رفع لها علم عظيم فشمرت له، واستبان لها صراط مستقيم

فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب له،
واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه.
  
إغاثة اللهفان - ابن القيم 

هل تعرفون علامات القلب السليم ؟؟ طبيب القلوب بن قيم الجوزية يجيبكم