وقفة مع رحمة نبي الرحمة
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) 107 الأنبياء
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه
من خلقي.
⛅ثم اختلف أهل التأويل في
معنى هذه الآية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ ❓
أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر؟ ❓
فقال بعضهم: عني بها جميع العالم المؤمن والكافر.
عن ابن عباس ، في قول الله في كتابه ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال:
▪من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ،
▪ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
وقال آخرون: بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر.
قال ابن زيد ، في قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ )
قال: العالمون: من آمن به وصدّقه ،
قال تعالى {وَإِنْ أَدْرِي
لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [الأنبياء 111]
قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة ، وقد جاء الأمر مجملا
رحمة للعالمين ،
والعالمون ههنا: من آمن به وصدّقه وأطاعه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب .القول الذي رُوي عن ابن عباس
،
وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ،
مؤمنهم وكافرهم .
فأما مؤمنهم فإن الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به ، وبالعمل
بما جاء من عند الله الجنة.
وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينـزل
بالأمم المكذّبة رسلها من قبله.
تفسير الطبري
وجه كون النبي رحمة للعالمين
قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
(107) الأنبياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنما أنا رحمة مهداة " صحيح الجامع
وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين :
الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ،
والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته .
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي
الإشبيلي :
«زين الله محمداً صلى الله
عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق»
▪وذكره عنه عياض في «الشفاء» . قلت :
"يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم فُطر على خُلق الرحمة
في جميع أحوال معاملته الأمة
↩لتكون مناسبة بين روحه
الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة
حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحَى به
إليه ملائماً رغبتَه وخلقه
قالت عائشة : «كان خلقُه القرآن». صحيح مسلم
↩ولهذا خصّ الله محمداً
صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء ، وكذلك
في القرآن كله،
قال تعالى: { لقد جاءكم
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [التوبة : 128 ]
وقال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران
: 159]
أي برحمة جبلَك عليها وفَطرك بها فكنت لهم لَيِّناً .
وفي حديث مسلم : أن رسول
الله لما شُجّ وجههُ يوم أُحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم
فقال : " إني لم أُبعث لعاناً وإنما بُعثتُ رحمة " .
تفسير ابن عاشور
تابع وجه كون النبي رحمة للعالمين
أما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر
تصاريف شريعته ،
↩أي ما فيها من مقومات الرحمة
العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى
{للعالمين } متعلق بقوله { رحمة}.
والتعريف في { العالمين } لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم .
والعالَم : الصنف من أصناف ذوي العلم ، أي الإنسان ،
أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة
✏فإن أريد أصناف ذوي العلم
فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة
أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس
فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة
إلا أن الرحمة فيها غير عامة.
لا جرم أن الله تعالى خصّ الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة
الكاملة .
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطاباً منه لموسى
عليه السلام:
{ ...وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقونَ وَيُؤتونَ
الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُم بِآياتِنا يُؤمِنونَ ﴿١٥٦﴾ الَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ
النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ...}[الأعراف 157]
ففي قوله تعالى : { وسعت كل شيء } ⬅️إشارة إلى أن المراد رحمة
هي عامة
♦فامتازت شريعة الإسلام
بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة
خاصة .
♦وحكمة تمييز شريعة الإسلام
بهذه المزية⤵
أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها
لأن تُساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تُقام المصالح بدونها .
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر .
قال تعالى : {.. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ ..}[ الحج78]
وقال تعالى : { ...يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر...َ}[البقرة 185]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " بُعثت بالحنيفية السمحة
"حديث حسن .رواه أحمد في مسنده
وما يتخيل من شدة في نحو القِصاص والحدود فإنما هو لمراعاة
تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى :
{ ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ]
فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس .
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته
بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة.
ورحمته بهم عدمُ إكراههم على مفارقة أديانهم ،
وإجراءُ العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم
ما عليهم في الحقوق العامة .
✏هذا وإن أريد ب { العالمين
} في قوله تعالى : { إلا رحمة للعالمين } النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة
↩فإن الشريعة تتعلق بأحوال
الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به .
إذ هو مخلوق لأجل الإنسان ،
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة 29]
{وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ وَمَنافِعُ وَمِنها تَأكُلونَ ﴿٥﴾ وَلَكُم
فيها جَمالٌ حينَ تُريحونَ وَحينَ تَسرَحونَ ﴿٦﴾ وَتَحمِلُ أَثقالَكُم إِلى بَلَدٍ
لَم تَكونوا بالِغيهِ إِلّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُم لَرَءوفٌ رَحيمٌ
}﴿٧﴾ [النحل]
🔦وقد أذنت الشريعة الإسلامية
للناس في الانتفاع بما يُنتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك .
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث «الموطأ» عن أبي
هريرة مرفوعاً :
" أن الله غفر لرجل وجد كلباً يلهثُ من العطش فنزل في بئر فملأ
خفّه ماء وأمسكه بفمه حتى رقِي فسقَى الكلب فغفر الله له " .
أما المؤذي والمضرّ من الحيوان فقد أُذن في قتله وطرده لترجيح
رحمة الناس على رحمة البهائم .
تفسير ابن عاشور
عموم رحمة نبينا من سعة رحمة الله
▪إن الله رحمن رحيم..
▪وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مُهداة إلى العالمين..
▪وإن الرسالة في أصلها وطبيعتها رحمة بالناس أجمعين..
↩من هذا المنطلق جاءت كلماته
في قضية الرحمة عمومية شاملة.. تحوي مع قلة ألفاظها معانٍ هائلة، وتشمل مع إيجازها
المعجز كل من يعيش على ظهر الأرض..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لا يَرْحَم
لا يُرْحَم". البخاري
↩هكذا على إطلاقها تأتي
العبارة، مَن لا يَرحم العباد - دون تحديد ولا تقييد - لا يرحمه الله عز وجل..
ويقول أيضًا: "ارْحَمُوا
مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ". الترمذي - حسن صحيح
وكلمة "مَنْ" تشمل كل مَن في الأرض..
إن الرحمة التي ظهرت في كل أقوال وأعمال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - لم تكن رحمة مُتكلَّفة، تحدث في بعض المواقف من قبيل التجمل أو الاصطناع،
إنما كانت رحمة طبيعية تلقائية مُشاهَدة في كل الأحوال، برغم
اختلاف الظروف، وتعدُّد المناسبات..
لقد رأينا رحمته صلى الله عليه وسلم مع الكبار والصغار، ورأيناها
مع الرجال والنساء، ورأيناها مع القريب والبعيد، بل ورأيناها مع الصديق والعدو..
بل إن رحمته تجاوزت البشر لتصل إلى الدواب والأنعام، وإلى
الطير والحشرات..
إننا نرى في سيرته أنه يرحم الهِرَّة.. فيُخبِر أن امرأة
دخلت النار لقسوتها على هرة!!
يقول صلى الله عليه وسلم
: "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ
تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ".البخاري
🔺بل نرى في سيرته أنه يخبر
عن زانية غفر الله لها لتحرك الرحمة في قلبها لكلب!
قال صلى الله عليه وسلم : "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ
بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".البخاري
⤴إن هذا المثال السابق ليدلنا
أشد الدلالة على اختلاف الموازين والمقاييس في أذهاننا عن حقيقتها التي هي عليها..
فكلنا يقول: وما كلب ارتوى إلى جانب جريمة زنا!! بل إنها
ليست جريمة زنا واحدة! إنَّ المغفرة كانت لِبَغِيٍّ احترفت الفاحشة!!
إن رحمة الله واسعة، والراحمون يرحمهم الله عز وجل، والذنوب
تتصاغر أمام رحمته سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه لا يرحم إلا الراحمين..
هذه هي المقاييس الصحيحة، والموازين الدقيقة التي بها تُقَّوم
الأعمال..
لذلك تدخل امرأة النار في هِرَّة، وتدخل أخرى الجنة في كلب!!
إن القضية ليست قضية الآثار المترتبة على الفعل، فلعلها هنا
قليلة ومحدودة بالحيوان الذي جاء في القصة، ولكن القضية حقيقةً هي ما وراء الفعل، وهي
الرحمة التي في قلب الإنسان، وعلى ضوئها تكون قراراته وأعماله..
بل هو يرحم الحيوان حتى في حالة ذبحه، فإن كان لابد أن يُذبَح
فلتكن عملية الذبح هذه رحيمة، فيقول: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا
الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". مسلم
ولسنا نقصد هنا الحصر، بل هي مجرد أمثلة، والحديث في ذلك
يطول ويتشعب..
إنها ليست رحمة خاصة بالبشر فقط، إنما هي رحمة بكل الخلق.
↩وفوق كل ما سبق ينبغي أن
نشير إلى أن رحمته صلى الله عليه وسلم قد شملت ما لا روح فيه أصلاً!!
إنه صلى الله عليه وسلم يتعاطف مع جبل أُحُد، الصخر الأصم،
ولا يريد للناس أن تتشاءم منه لحدوث مصيبة للمسلمين عنده، ولا يريد لهم أن يكرهوه دون
جريرة ولا جريمة!..
فقال صلى الله عليه وسلم ، وهو يشير إلى جبل أُحد:
"هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ".البخاري
أية رحمة.. وأي رفق.. وأي عطف.. وأي حنان!! ️
إنه يرحم الحياة بكاملها.
يرحم من يعرف ومن لا يعرف
إنه يُطَبِّق ما أراده الله عز وجل مِنْ خلقه ولخلقه..
إنه - سبحانه - أراد منهم الرحمة، وأراد لهم الرحمة..
وهذه هي رسالة الإسلام في حقيقتها،
وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقته..
الرحمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم- د.راغب السرجاني
مشاهدة "مقطع مؤثر رحمة النبي - أبوإسحاق الحويني"
-